يصادف هذا المقال الدخول المدرسي، هذا الموسم الذي يعيد كل عام النقاش حول مستوى التلاميذ في المغرب مقارنة بنظرائهم في العالم، وهي فرصة للتذكير بتقارير المنظمات الدولية المتخصصة في التربية وقياس معدلات الذكاء، التي تضع المغرب في مراتب مقلقة، وهو ما يثير الاستغراب المشروع لدى الأسر والمهتمين بالشأن التعليمي.

لكن إذا تجاوزنا لغة الأرقام الباردة وتأملنا تفاصيل الحياة اليومية، نكتشف أن الحلول ليست بعيدة المنال، بل قد تكون أقرب مما نتخيل، وتكمن في استثمار شغف الأطفال وفضولهم الطبيعي بدلا من حصرهم في قيود المنهج الصارم، فتتحول رحلة التعلم من عبء ثقيل إلى “مغامرة” ملهمة.

الأطفال المغاربة، مثل غيرهم، يظهرون مهارات مذهلة في ميادين لم تُدرّس لهم قط، من استعمال الهواتف الذكية، إلى إتقان الألعاب الرقمية، إلى سرعة التكيف مع منصات جديدة في التواصل. هذه المفارقة تطرح سؤالا جوهريا :

هل المشكلة في “ذكاء الأطفال” أم في الطريقة التي نوظّف بها فضولهم وحماستهم !؟..

حين نتأمل في تجاربنا اليومية، نكتشف أن ما يترسخ في عقولنا ليس دائما ما فُرض علينا تعلّمه، بل ما اقتربنا منه بدافع داخلي، لذلك نجد أن بعض المعارف تتعرض للنسيان سريعا بينما تظل أخرى حية فينا وتشكّل وعينا.

العقل لا ينمو بشكل متوازن عندما يُجبر على المعرفة، بل حين يتغذى على الشغف، لأن الفضول المشحون بالحماس هو الوقود الحقيقي الذي يدفع الإنسان إلى اكتشاف المجهول.

لم يكتشف “نيوتن” قوانين الجاذبية لأنه كان مجبرا على ذلك في فصل دراسي، بل لأنه كان مسكونا بشغف لفهم الطبيعة. الحماس هو ما جعله يطرح السؤال البسيط :

لماذا تسقط التفاحة إلى الأسفل ؟..

الرسام لن يبدع لوحة خالدة إذا كان يرسم فقط لأجل الامتحان أو الراتب. لكنه عندما يرسم مدفوعا بحماسة داخلية، يتحول القماش إلى لغة جديدة، والصباغة إلى فكرة تُخلّد في وجدان المتلقي.

الطالب الذي يُرغم على حفظ درس في الفيزياء قد ينساه بسرعة، لكن إذا كان شغوفا بتفكيك الآلات مثلا، فإن فضوله يجعله يغوص في المعرفة باندفاع ويكتسب علما راسخا.

كلنا اليوم نمسك الهاتف ونكتب بالإبهامين، و نجد أن الأطفال يتقنون هذه الحركة بسرعة مذهلة، ليس لأنهم تدربوا عليها في مدرسة أو تلقوا تقنياتها في حصة درس، بل لأن حماسهم للتواصل واللعب يدفع عقولهم وعضلاتهم للتأقلم بسرعة.

يتطور عقل الطفل وهو يكتشف كيف يستعمل إبهاميه على لوحة مفاتيح الهاتف بدافع الحماس، إذ يتطور العقل البشري عموما في كل مجال عندما يكون مدفوعا بنفس الطاقة الداخلية المنبعثة من الفضول والشغف.

الطفل الذي يُطلب منه حفظ درس طويل دون رغبة يتعب ويملّ، لكن نفس الطفل يمكنه في دقائق أن يتعلم كيف يرسل رموزا وصورا متحركة على الهاتف لأنه متحمس لذلك.

فالعقل يتطور بقدر ما يغتذي على الحماسة، والمعرفة التي تُطلب بشغف هي التي تترك أثرا عميقا وتُثمر إبداعا.

يمكن أن يشكل الدخول المدرسي لحظة للتفكير والإجابة من طرف الذين يتحملون مسؤولية تسيير وتدبير القطاع عن أسئلة مهمة من بينها :

كيف نحوّل التعليم من عبء ثقيل إلى رحلة ممتعة !؟..

كيف نستثمر في شغف الأطفال بدل أن نقتل فضولهم !؟..

عندها فقط ستصبح أرقام الذكاء مجرد تفصيل، لأن العقول المتحمسة تصنع معجزاتها خارج مقاييس الاختبارات التقليدية.