الفن المصري، يوما، مثل النيل.. لا يعرف حدودا، ينساب من منبعه في القاهرة ليصل إلى كل بيت عربي، من المحيط إلى الخليج، كانت المسلسلات تُعرض في رمضان فتجمع العائلة العربية أمام الشاشة، والأغنية المصرية تُسمع في المقاهي ببيروت، كما تُسمع في شوارع الخرطوم، والسينما المصرية كانت هي “هوليوود الشرق” التي علّمت الأجيال كيف يضحكون ويبكون ويحلمون.
لكن مع مرور الوقت، أخذنا نكتفي بالحديث مع أنفسنا، كما لو كنا نقف أمام مرآة نُعجب بظلنا، بينما العالم حولنا يتحدث بلغات متعددة ويخاطب جمهورًا متعدد الألوان والملامح. وكما يقول الناقد السينمائي الأمريكي روجر إيبرت: “الفن لغة عالمية، لكنه يفقد معناه إن انغلق على نفسه”.
نملك إرثا فنيا يتجاوز عمره القرن، مائة عام من السينما والدراما التي حفرت أسماء نجومها في ذاكرة الأمة العربية، هذا الإرث ليس مجرد تاريخ نفخر به، بل هو مسؤولية ثقيلة تقع على عاتقنا اليوم، فإذا لم يتجدد هذا النهر الذي أروى الأجيال، تحول إلى أثر جاف، وإذا لم تتطور الفنون لتواكب لغة العصر، باتت مجرد تحف تُعرض في متحف، يزورها الناس للحظات ثم يغادرون.
هذا هو التحدي الذي يواجهنا اليوم. هذا هو السؤال الذي يجب أن نطرحه في لحظة تأمل، لا في لحظة “خضة” مما يحدث حولنا. إن تفريغ بعض الساحات العربية من فنانينا، ليس نهاية المطاف، بل هو دعوة للتفكير في “كيف” نخرج من قوقعة مخاطبة الذات، إلى فضاء مخاطبة كل العرب.
إننا نملك إبداعات عظيمة، لكن “المنتج” العظيم وحده لا يكفي. فإذا لم نملك محلا لبيع هذا المنتج، أو نافذة لعرضه، فلن يراه أحد. لقد تغير العالم، ولم يعد الفلك يدور حول مركز واحد، بل أصبح سباقا مفتوحا للأمام، والمجد ليس حكرا على الماضي، بل هو ملك لمن يدرك الحاضر ويستشرف المستقبل.
إننا في حاجة ماسة إلى تأسيس منبر ثقافي جديد، لا يكتفي بعرض دراما أو برامج للمصريين فقط. بل يكون منصة مصرية الهوية، عربية الروح، تخاطب كل العرب بلا استثناء. منصة تكون جسرا ثقافيا يتجاوز الحدود الجغرافية، ويستوعب التنوع الهائل في الأقطار العربية. أعرف أن لدينا منصة واعدة وهي واتشت وقدمت أعمال ناجحة ومميزة جدا، لكنني أتحدث عن منصة شاملة بها تنوع درامي يغطي كل الجنسيات والأهواء والأذواق العربية، منصة يجد فيها كل عربي ما يهمه وما يهم بلده، وربما مدينته التي يعيش فيها ويسمع لهجته المحلية على منصة إقليمية.
لنتخيل معا هذه المنصة:
قناة فضائية أو منصة رقمية، تعرض دراما مصرية أصيلة، لكنها تتناول قضايا إنسانية واجتماعية تلامس قلوب كل العرب. برامج حوارية سياسية وثقافية وفنية، يقدمها مذيعون من جنسيات عربية مختلفة، من المحيط إلى الخليج، ليكونوا صوتا للجميع. ضيوف من كل الأقطار العربية، يشاركون في النقاش، ويثرون الحوار. موضوعات تهم تونس والمغرب، كما تهم العراق والسعودية، وتُعنى بهموم لبنان واليمن، كما تُعنى بمصر.
هذه المنصة ليست مجرد قناة أخرى تُضاف إلى الفضائيات الحالية. بل هي تجسيد لرؤية جديدة، تؤمن بأن قوة الفن المصري تكمن في قدرته على الانتشار والتأثير، لا في انحصاره في دائرة محدودة. إنه الوقت المناسب لنخرج من دائرة “نحن” إلى دائرة “نحن جميعًا”، وأن نفتح أبوابنا للعالم العربي كله، ليشاركنا في صناعة الفن وتقديمه.
إن صناعة الفن في العالم اليوم، كما يرى النقاد وخبراء الصناعة، لم تعد قاصرة على المحتوى الجيد فقط، بل أصبحت تعتمد بشكل أساسي على “خريطة الجمهور”، وإن النجاح الحقيقي يكمن في القدرة على فهم الجمهور المستهدف، وتلبية احتياجاته، وتقديم محتوى يحمل طابعًا محليًا لكنه يرتكز على قيم عالمية، فالأفلام والمسلسلات التي تحقق أعلى نسب مشاهدة حول العالم، هي التي نجحت في تجاوز حاجز اللغة والثقافة، لأنها تناولت قصصًا إنسانية مشتركة، وقدمت أبطالًا يمكن للجميع أن يتعاطف معهم.
الفن المصري يمتلك هذه القدرة الهادرة، فهو يحمل في جيناته الجمال والبساطة والعمق، التي مكنته من أن يكون يومًا صوت الأمة العربية كلها. وحان الوقت ليعود ليجدد هذا العهد. أن نصنع منصة تُعيد فننا إلى عرشه، لا لكونه الأقدم، بل لكونه الأكثر حكمة في قراءة الحاضر، والأكثر جرأة في رسم ملامح المستقبل.
هذه المنصة هي استثمار في القوة الناعمة، وفي الهوية الثقافية المشتركة. هي مشروع ليس تجاريا فقط، بل هو مشروع وجودي وفكري. هو إعلان عن أن الفن المصري لا يزال نهرًا جاريًا، قادرًا على أن يروي كل الأراضي، وأن يُورق في كل البساتين العربية.
فلننظر إلى مرآة الفن المصري اليوم، ولنتخذ قرارا شجاعا: هل نرضى بأن نكون متحفا عظيما في الماضي، أم نُفضل أن نكون قوة حية ومؤثرة في المستقبل؟
Recommended for you
مدينة المعارض تنجز نحو 80% من استعداداتها لانطلاق معرض دمشق الدولي
تقديم طلبات القبول الموحد الثلاثاء و640 طالبا سيتم قبولهم في الطب
طالب الرفاعى يؤرخ لتراث الفن الكويتى فى "دوخى.. تقاسيم الصَبا"
انجذاب من أول نظرة.. كريم عبد العزيز وهايدي: حب بدأ بتجمع عائلي وزواج 20 عاما
وزير الطاقة والمياه الأفغاني للجزيرة نت: بأموالنا نبني السدود ونواجه الجفاف
سعر الحديد اليوم الجمعة 15- 8- 2025.. الطن بـ40 ألف جنيه