اليوم، بعد أن هدأت الدفوف، وخفت صوت الأهازيج، وتوارت كل الفرق التراثية وعاد الفنانون الى إيقاعهم المألوف والرتيب، آن الأوان أن نسلط شيئا من الضوء على بعض الجوانب التي تمس هذه التظاهرة الفنية الكبرى، وخصوصا الدورة الأخيرة، الدورة الرابعة والعشرين للمهرجان الوطني لفن “أحيدوس”، التي احتضنتها الجماعة القروية عين اللوح بإقليم إفران أيام 18 و19 و20 يوليوز 2025.

إذا كانت وزارة الثقافة تعتبر “أحيدوس” من العناصر الأساس في التراث الموسيقي المغربي غير المادي، وتعتبر صون هذا الفن والحفاظ عليه وتثمينه لضمان استمراريته وتوارثه من أولوياتها، وتؤكد أن استمرار هذه اللوحات التراثية رهين بدعم الفرق والشعراء والمبدعين الذين يعتبرون جنود التراث وحماته، فإن واقع التظاهرة وحجمها وطريقة تدبير شؤونها يعتريها الكثير من الاختلال.

في البداية، يجب أن نسلم جميعا بأن وسام “الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده” الذي يحظى به المهرجان-وبعيدا عن المزايدات-يقتضي أن تعمل كل الأطراف، الفاعلة والمتتبعة، وبكل ما أوتيت من إمكانيات-مادية ومعنوية-على تطوير وتجويد التظاهرة، لأنها ليست مجرد حدث عابر، بل لقاء فني وثقافي يفترض أن يكون رافعة للتنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية للمنطقة والإقليم ككل.

طبعا، لن نفصل في حيثيات هذا التراجع المشهود والمقلق لهذه التظاهرة، الذي تعتبر فيه يد السياسة وتقاطباتها طويلة بشكل كبير، لكن يبقى من الجدير بالذكر أن المهرجان الوطني لفن “أحيدوس” كان بدعم كبير من أحد الوجوه السياسية بالمنطقة الذي يعتبر من “رجالات الدولة”، والذي استطاع أن يجعل من المهرجان تظاهرة وطنية كبيرة تستأثر بالاهتمام المركب من كل الأطراف، بل ومنحها شرف الرعاية الملكية السامية.

مع التغيير الذي لحق المواقع والألوان السياسية بالمنطقة، تراجع حجم الدعم الذي كانت التظاهرة تحظى به، وفقد المهرجان صداه الثقافي والفني بعد سحب البساط من تحت أرجل من سهروا على الفترة الذهبية للمهرجان الذين خبروا شروط التطوير والتجويد، وأدركوا دقيق التفاصيل التي لن يتملكها قطاع الثقافة بوصفه الجهة القائمة على النشاط. سياق جديد إذن أفضى الى تظاهرة لم تستطع تجاوز الجانب الاستعراضي والاحتفالي لفن “أحيدوس”.

وعلى أهمية هذا الجانب الاستعراضي في خلف الفرجة والتنفيس عن الزوار، يظل تسليط الضوء على هذه التعابير المركبة أمرا لا محيد عنه، “أحيدوس” ليس مجرد فلكلور للاستهلاك السياحي الضيق، بل طقوس متجذرة تستحق تناولا انتروبولوجيا يكشف جوانب الظل فيها، “أحيدوس” أشعار حبلى بالصور الفنية والبلاغية التي لن تفهم إلا بمقاربات علمية لرجالات الأدب والنقد وفق مناهج علمية قائمة، أشعار ذات رسائل مشفرة، ذات رمزية استثنائية لن يحيط بها إلا الضالعون في تحليل الخطاب من اللسانيين ورجالات علم التاريخ والسوسيولوجيا.

تنظيم مهرجان وطني لـ”أحيدوس” في قلب الأطلس يقتضي الوعي بضرورة وأهمية المقاربات العلمية في فهم ظاهرة “أحيدوس” بالشكل المطلوب، من هنا يعتبر تغييب جانب المحاضرات والندوات العلمية، واستبعاد المتخصصين في البلاغة والانتروبولوجيا والتاريخ واللسانيات والسوسيولوجيا في هذا الحدث خطأ فادحا وجب تداركه.

في هذا الإطار، يفترض أن يمتد التنسيق بين وزارة الشباب والثقافة والتواصل – قطاع الثقافة وجمعية ثايمات لفنون الأطلس (الحاضرة-المغيبة)، الى مؤسسات جامعية لا يفصلها عن عين اللوح إلا نحو مئة كيلومتر، تعج بأساتذة متخصصين تناولوا بالدرس والتحليل الأشعار الأمازيغية وطقوس رقصات “أحيدوس”.

يفترض أيضا أن تركز وزارة الشباب والثقافة والتواصل – قطاع الثقافة على تأطير وإنصاف الشعراء والفنانين، فإذا كانت الدورة الأخيرة قد شهدت مشاركة تسعة وثلاثين (39) فرقة، تمثــل مختلف أنماط وتــــعبيرات هذا الفن التـراثي الأصيل، فإنها-الوزارة الوصية-مطالبة بلقاء موسع مع هؤلاء المبدعين تستمع فيه إلى معاناتهم، وتساعدهم على إعداد ملفاتهم مع كل التبسيط الأقصى لتمكين أعضاء هذه الفرق جميعهم من “بطاقة الفنان”، وتنظيم يوم دراسي أو حملات تعرض من خلالها الوزارة مزايا هذه البطاقة.

من جهة أخرى، يفترض أن تعمل الوزارة ومصالحها على تحفيز الفرق التراثية من خلال جوائز التميز خلال المهرجان الوطني بعين اللوح، وتشجيعها عبر أقاليم وعــمالات وجهات المملكة على التشبيك كمنهجية من شأنها تأطير عمل هؤلاء الفنانين بشكل أفضل من خلال دورات تكوينية ولقاءات لتبادل التجارب وكذا التنسيق.

يبقى كل ما قيل مجرد قطرة في محيط انشغالات ومعاناة رجالات “أحيدوس” ومحبيه، ومدخلا أساسيا لتثمين التراث الثقافي الوطني بشكل مسؤول ينتصر للخصوصية المغربية وتميزها، وكذا إنصاف هؤلاء الذين يتزينون لخلق الفرجة تاركين أعمالهم وأشغالهم لرسم الابتسامة على الوجوه، “أحيدوس” ليس مجرد شعر ورقص، بل طقس حضاري وثقافي وفني يمتد لقرون مديدة ولا يعرف غير تربة هذا الوطن، وعلى الوزارة الوصية ومصالحها أن يدركا ذلك وكفى.